• Almotassakiâ

     المـتـســكــع

        

    أوراق أشجار سقطت، وأوراق جرائد قرأت ثم أتلفت .. الأحذية البالية أهملت، آلاف فناجين القهوة انتشيت. كل حجر في المدينة أصبح مألوفا، الحيوانات تعرفني أيضا، مثلا حصان الشيخ الكبير يهز رأسه كلما  مررت به، لاشك أنه يقدرني، كلما أمعنت النظر في عينيه تبين لي أنه يحبني كثيرا. أتذكر يوما أنني اخترت طريقا مغايرا للذي اعتدت عليه.. فعلمت فيما بعد أن الحصان أضرب عن العمل ذلك اليوم.

    وفي اليوم الموالي عندما مررت به كان جد متوتر كأنه يعاتبني عن غيابي الغير المبرر ، كي أعبر له عن اعتذاري مررت ذلك اليوم عدة مرات بنفس الطريق ، وفي آخر المطاف، أظنه قبل اعتذاري حيث هز رأسه عدة مرات وبسرعة وأضاف نحنحة تكاد تشبه صهيلا.وكان في بعض الأحيان عندما أمر به يكتفي بنحنحة بسيطة. كنت أتفهم ذلك، قد يكون مشغولا أو في غير مزاجه..

    أما المقاهي فهي تعرفني جيدا حيث اتخذت لكل مقعد وكل طاولة حتى الكؤوس أسماءا خاصة بها، وعلمت أن أهل المدينة اكتشفوا طريقة جديدة لترقيم السيارات وأنا الآن بصدد التفكير في الاستفادة من هذا الاختراع العجيب لإلحاقه  بالكؤوس والكراسي، على سبيل المثال 3572/5/هـ تعني مقهى الهناء الصف الخامس والرقم الترتيبي للكأس 3572، على ذكر هذا الكأس اخبرني يوما أنه يشعر باقتراب تكسره على أحد أطفال المقاهي هكذا أسميهم أنا، انظر كيف أنهم رجالا خارج المقاهي وأطفالا داخله... وفعلا لم أرى كثيرا !ذلك الكأس منذ ذلك التاريخ... لقد تأثرت لذلك

    وفي المقهى تتم مناقشة كل المشاكل على شكل مناظرات وحلقات، كنت أنا ومتسكعين آخرين، نستطيع الحديث في آن واحد في مختلف المواضيع الشائكة والحالكة في الفن في السينما في الشعر وأمور خطيرة جدا كالأمن المقهوي والدراسات المستقلبية والإنتجاعية حتى مشاكل البيئة مثل التصوف وارتفاع درجة البطالة وطبقة الجيوب وسيدا والخمير الحمر والزرق والصفر وكلهم... أما إذا كان موسم كرة القدم فكلنا يصير خبيرا بالشؤون الكروية ولكن ثمة اختصاصات لكل واحد منا فهناك من عالم بالمسائل القانونية إلى عالم بالمسائل الحميمية!  أما أنا فكنت مختصا في الشؤون التنظيرية حتى أني أجد الحلول لكن المعضلات التي تمر بها البلاد والعباد حتى الحيوان فمثلا بالنسبة للتعليم لي نظرية متميزة في هذا الشأن.

            فأنا أعتقد أنه يتوجب على وزارة التعليم تنظيم الامتحانات وتنظير البرامج والمناهج والإشراف عليها وتتبعها فقط، أما التعليم والتربية في حد ذاته فيعهد إلى مؤسسات مخصخصة تكون مجبرة بنشر نسب النجاح عندها لكي يطلع عليها الآباء وهذه النتائج تكون مصادق عليها من طرف الوزارة الوصية، هذه الأخيرة تدعم تلك المؤسسات وذلك حسب عدد التلاميذ المسجل لديها... أما بالنسبة إلى الاقتصاد فأعتقد أن تحرير اليد العاملة هو الكفيل بتطويره فإيجاد سوق عمل دائمة يخضع كل منصب أيا كان نوعه فيها إلى قانون العرض والطلب الذي يحتكم إلى الكفاءة بأقل تكلفة ! وهذا النظام سيسمح إلى كثير من ماسحي الأحذية الترقي في سلاليم الدولة لما يتمتعون به من خبرة عالية في الاعتناء بالأحذية، أما الوزارات تكون على شكل شركات يتعين عليها إنجاز برامج محددة وفي زمن معلوم عبر عروض حرة تقدمها المؤسسة التشريعية، هذه الأخيرة بدورها تخضع إلى نظام الانتخابات الدورية كل شهر عن طريق بطاقات ممغنطة بواسطة شبكة إعلامية مبرمجة خصيصا لذلك، بهذا الأسلوب يتمكن الناخبون من إيجاد منتخبين صالحين...وغيرها من النظريات في شتى الميادين... فكان باستطاعتي إحداث نظرية جديدة في كيفية استعمال بيت الماء وذلك في أقل من دقيقة ! لم يفتني أمر من أمور الدنيا والآخرة لم أدلي بدلوي فيه.

            هذا أحد المتسكعين الذي أعرفهم لقد رأيته البارحة وأخبرني أنه تحول إلى مقهى آخر، وبدأ يعد لي محاسن تلك المقهى الجديدة... إن الكراسي سهلة وهينة وترضخ بسرعة فائقة لصاحبها. أما الكؤوس فهي أكثر ترحابا وحسن استقبال من غيرها... وهو يصف لي ذلك كنت أحدث نفسي لو أن هذه الانتقالات كانت تمر عبر ترخيص ما من القطاع العام لكان الواحد منا ينتظر شهورا وربما أعواما حتى يستطيع الانتقال من مقهى إلى مقهى آخر، وينبغي عليه أن يعطي رشوة أو يعرف أحد رجالات الدول وربما الوزير نفسه لكي يتمكن من الانتقال...أعوذ بالله من هذا...

            كنت يوما واقفا أمام سارية أتصفح الجريدة في الحقيقة لم أكن أقرأ شيئا، كنت أمثل ذلك فقط، وأحسست أن السارية كأنها تريد أن تحييني وتنحني لي إجلالا لصبري على وجد هذه الأرض، شعرت بذلك نظرت يمينا ويسارا هل يراني أحد ؟ ثم صححت وقوفي بسرعة مخافة أن تسقط العمارة إن هي فعلت ذلك أحب أن يكون ضميري مرتاحا، خشيت أن يموت الأبرياء، مساكين لم يفعلوا شيئا وقفت أمام السارية مستقيما كإنسان عادي أقصد مثل هؤلاء الذين يدخلون إلى وكالات الأبناك ويخرجون منها مبتسمين مبتهجين أو أولائك الذين يقفون صفا أمام شبابيك الأوتوماتيكية للأبناك أذكر يوما أني أردت أن أعيش تلك التجربة وأخذت الصف معهم وعندما وصل دوري أخذت محفظتي وبدأت أبحث عن بطاقة الانخراط !… تبا لقد نسيت البطاقة…انظر كيف ذلك ! عفوا…أستسمح… من فضلك…تفضل…وأنا كذلك رأيت إنسانا أنيقا ابتسم في وجهي أنا أيضا فعلت ذلك…إنه شعور جميل أن تحس أنك مثل الآخرين…أظن إن السارية المجاورة لاحظت ذلك المنظر ولم يرقها ذلك خشيت أن تخبر أحد المتسكعين بما رأت فأفضح أمامهم، فيجعلوا هذه الواقعة نكتة يتسامرون حولها.

    التقيت بنفس الشخص بعد ذلك الحادث وتكلمنا عن حالة التجارة وأمور في الاقتصاد الدولي والأسهم والبورصة وكانت ترافقه فتاة شابة جميلة سلمت علي فضحكت… فضحكت معها...فقبلتها إني امزح كان ذلك مجرد حلم في يقظة.

            إلا أنه هناك صنف من الذين يقفون أمام الشبابيك الأوتوماتيكية فهؤلاء لم أكن أغبطهم كثيرا، لا يظهرون إلا مرة كل شهر، فهؤلاء كان أحد المتسكعين المشهورين في المدينة يقول عنهم كلما رآهم لقد أتتهم العادة الشهرية... المساكين وإني لا عجب من أمر مدينتي هذه المدينة الساكنة المتحركة ولما تحويه من نماذجة بشرية مختلفة الشيع والمشارب تكثر فيها الإنحلالات والإعتكافات والقصور والأكواخ وسيارات الليموزين وعربات يجرها الحمير والبغال والفيلة والزرافات والقردة والنمل والصراصير أسواقها ممتازة وأخرى عبارة عن دكاكين من العصر الحجري الكل فيها يشتغل بالعطالة.

    ها هو القمر الأحمر يبدو قريبا من الأرض، شجرة العريش تداعبه هناك في الأفق وتهمس إليه لا أدري ماذا كانا يقولان ربما كانا يتحدثان عني وربما عن كنزي الذي أبحث عنه منذ الخريف الماضي منذ كنت صغيرا نعم منذ ذلك الوقت، عندما كلفني أهل المدينة لأبحث لهم عن الكنز الضائع...أيكون القمر كنزي ؟ ربما كان كذلك ولكن الشمس غربت والقمر اختفى وأنا لا أحب المختفين ها قد بدأ يخيم الليل على المدينة، أهلها يهرولون إلى بيوتهم بعد قليل يصيح كل واحد منهم أمام شاشة التلفاز صم عمي لا يدرون ما يحاك ضدهم.

            الأكشاك أقفلت والمحلات غلقت أبوابها الأضواء انتشت، الشارع القديم أصبح خاليا إلا من بعض القطط و"الشمكارا" [1] هؤلاء قوم لا أدري من أي عالم أتوا لاشك أنهم من المسافرين عبر الزمان لا أحد حتى الآن استطاع رأيت النافذة التي يمرون بها إنهم يتمتعون بقدرات خارقة باستطاعتهم الكلام بالإيحاء فقط أو بنظرة واحدة يتمكنون قول كل شيء أعتقد أنهم لا يتوالدون ولا يموتون إنهم هجين من خلق جديد.

            الكل دخل منزله حتى الشحاذة لم يبق لهم وجود في الشوارع والطرقات إنهم كانوا يغطون سماء المدينة ويحجبون الهواء عن أهلها فلا تكاد ترى أحدا حتى يتراء لك جيش عرمرم من الشحاذين كل واحد منهم يبتدع أسلوبا وطريقة جديدة  في الشحاذة فإبداء العجز وتصنعه لم يعد موضة في الشحاذة وإنما اخترعت أساليب جد متطورة فعلى سبيل المثال، كنت أتسكع يوما عبر الانترنيت فوجدت موقع  "سيت" Site   في "الويب" Web يقول: " تصدق نيت Net -ترزق بيت -في جينات" وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على نباهة هذه الشريحة من المجتمع وتتبعها لما يحدث من تغييرات في المدينة ولا عجب أنهم اليوم يلتجئون إلى وكالات إشهارية متخصصة في الشحاذة تنصحهم وتمدهم بخطابات جاهزة مسبوغة بمؤثرات دينية تكون نتيجتها فعالة لا محالة.

    الأصوات خفتت شيئا فشيئا، أين الازدحام الذي كان في هذه الدروب منذ ساعة فقط ؟ إني مازلت أسمع دندنات تلك الأصوات وأجراس ذلك الأمس البعيد…عبرت أرصفة المدينة النائمة وشوارعها مشيت والطرقات شبه خالية وسط ازدحام الشوق إلى نهار بعيد. لا بفزعي الظلام وإنما يذكرني بوحدتي وخيبة أملي، هاهو نجمي يسطع في السماء، ليس نجم السينما طبعا وإنما نجم هذا الوجود أهو أثمنهم ؟ هذا كنزي هذا أكبر ها أنا أحلهم بتزلجي فوق الغمام بسلام مع حمام المدينة لكأني أجد ريحهم ثم أغيب لا أدري متى أتيت ولا أدري متى ولدت،  فتصحي الرياح وأحن إلى خطى الصباح أي شبح غريب أنا شب في هذه المدينة، ضجر من العهود وانتظار اليوم الموعود والأمل المفقود هاهي الريح قد هبت، ها هي الأيام انقضت وولت...

     


    [1] - آخر ما أنتجه مجتمعنا من صنف بشري، قوم يضلون تائهين في غياهب الضياع والتشرد طوال النهار والليل متحششين متشممين بكل أنواع التحشش حتى بمواد صنعت خصيصا لتحليل الصباغة أو مواد لتلميع الأحذية وهما يتفننون في إبداع أنواع جديدة تخدرهم وتغيبهم.